لا يقتصر على الأمهات فقط.. الآباء أيضا يعانون من اكتئاب ما بعد الولادة
تواجه العديد من الأمهات تحديات متعلقة بالصحة العقلية بعد ولادة أطفالهن، وقد يواجهن اكتئابا حادا يصل ببعضهن إلى الانتحار. تُعرف هذه الحالة باسم “اكتئاب ما بعد الولادة”، ومن المرجح أنك سمعت بها من قبل، ربما بسبب خبر أو حكاية هنا أو هناك، على موقع على الإنترنت أو عبر وسائل التواصل، لكن ما لم تعرفه سابقا -على الأغلب- أن الآباء أيضا يواجهون اكتئاب ما بعد الولادة.
“دافيد ليفين” هو طبيب أطفال أميركي، منذ بدأ حياته المهنية في نيوجيرسي بالولايات المتحدة، سمع عبارة واحدة مرارا وتكرارا من الآباء والأمهات الذين تعامل معهم خلال عمله، هي: “ستكون أبا جيدا يوما ما”. شعر ليفين بحماسة وسعادة كبيرة حينما أنجبت زوجته، وعندما واجهت تحديات مع الرضاعة الطبيعية، كان بإمكانه استخدام خلفيته الطبية للمساعدة في دمج الرضاعة الطبيعية مع الصناعية، في هذه الأثناء شعر ليفين أنه مفيد ويستطيع إفادة صغيره ومساعدة زوجته، ولكن بعد ذلك تحول دوره تدريجيا، لم يكن بحاجة إلى أن يكون طبيبا، بقدر حاجته إلى أن يكون أبا (1).
تآكل الفرحة وتراجع الحماس
يقول الدكتور ليفين في حديث لمنصة “سايكوم” النفسية: “كنت متحمسا مثل أي والد جديد، وأتطلع إلى أن أكون أبا”. ولكن في غضون أيام، تآكلت فرحته الأولية، وحل محلها القلق والخوف، حيث كان ابنه يبكي باستمرار. بصفته طبيب أطفال، كثيرا ما كان ليفين قادرا على مساعدة الآباء القلقين والأطفال الذين يبكون، ولكن في دوره الجديد أبا، لم تستطع خبرته الطبية كبح جماح خوفه المهووس من أن بكاء طفله المستمر يشير إلى مشكلة طبية خطيرة، حاولت زوجته وطبيب أطفال ابنه طمأنته، لكنهما لم ينجحا.
في مرحلة ما، اقتنع ليفين أن الطفل يكرهه. عبّر عن هذا لزوجته التي أشارت إلى أن الطفل أصغر من أن يكره أي شخص، لكنه أضاف: “إنه يبكي بمجرد دخولي الباب”. مع مرور الأسابيع، أصبحت أفكار ليفين ومشاعره تجاه ابنه وتجاه نفسه أكثر قتامة. يقول لموقع “بي بي سي”: “كنت أود أن أقول لزوجتي إن مجيء الطفل أصبح نهاية حياتنا، كل ما كنت أتخيله هو دورة الجحيم القادمة التي تنتظرنا”(2). على الرغم من أنه لم يكن يدرك ذلك، فإن ليفين كان يُظهر أعراضا كلاسيكية لاكتئاب ما بعد الولادة لدى الرجال.
غالبا ما يُعرَّف اكتئاب ما بعد الولادة (PPD) على أنه نوبة من الاكتئاب الشديد، تحدث بعد ولادة الطفل بفترة وجيزة. يتم الإبلاغ عن هذا الاضطراب بشكل متكرر من الأمهات، ولكنه يمكن أن يحدث أيضا للآباء. لا توجد معايير محددة لاكتئاب ما بعد الولادة لدى الرجال، لكن عوامل الخطر تشمل وجود تاريخ سابق للإصابة بالاكتئاب واضطرابات القلق (3)، ويمكنها في النهاية أن يؤثر سلبا على الأب ووحدة الأسرة والطفل النامي (4).
من خلال عمله، كان ليفين يعرف جيدا اضطراب “اكتئاب ما بعد الولادة” الذي تعاني منه بعض الأمهات، لكنه كان يظن أنه حالة أنثوية، وهو اعتقاد شائع حتى في صفوف المتخصصين. فقد وجدت دراسة أجريت عام 2019 في المملكة المتحدة أن أخصائيي الرعاية الصحية كانوا أكثر عرضة للتعرف على أعراض اكتئاب ما بعد الولادة لدى الإناث، مشيرة إلى الحاجة إلى مزيد من الوعي بالأمر عند الذكور(5).
لا يتم التعرف عليه بسهولة
يقول “غرانت بلاشكي”، المستشار الإكلينيكي الرئيسي لمنظمة الصحة العقلية الأسترالية، لموقع “بي بي سي”: “على الرغم من تزايد الوعي المجتمعي بالأمراض العقلية، مثل اكتئاب ما بعد الولادة لدى النساء، فإنه ظاهرة أقل شهرة، ولا يتم التعرف عليها بسهولة لدى الرجال”. بعض الرجال يرفضون حتى الاعتراف بمشاعرهم أو حزنهم أو اكتئابهم، لأنهم يخشون التعرض للوصم الاجتماعي عند التعبير عن تحديات الصحة العقلية التي يواجهونها.
عادة ما تضع المجتمعات ضغطا نفسيا زائدا على الرجال فيما يتعلق بشأن التعبير عن مشاعرهم، لكن إنكار الأمور أو تجاهلها لا يعني عدم وجودها. فوفقا لدراسة نُشرت في عام 2010 في مجلة الجمعية الطبية الأميركية (4)، يُعاني 10% أو 1 من كل 10 رجال حول العالم من اكتئاب ما بعد الولادة. تضمنت الدراسة، وهي عبارة عن تحليل تلوي، أي تحليل إحصائي يجمع بين نتائج دراسات علمية متعددة، أكثر من 28,000 مشارك في 43 دراسة سابقة أُجريت بين عامي 1980 و2009، وقد أفادت أن معدل الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة لدى الرجال كان أعلى نسبيا في الفترة من 3 إلى 6 شهور بعد ولادة الطفل (6).
في السياق ذاته، وجدت مراجعة نُشرت في يونيو/حزيران 2022، نظرت في ما يقرب من 30 ألف زوج من 15 دولة، أنه في 3 من كل 100 عائلة، عانى الأب والأم من اكتئاب ما بعد الولادة في الوقت نفسه (7). وجدت الدراسات أيضا أنه في بعض الحالات إذا عانت الزوجة من اكتئاب ما بعد الولادة، فهذا من شأنه أن يجعل الزوج أكثر عرضة للإصابة بمقدار الضعف، وذلك وفقا لمراجعة أُجريت عام 2004 وشملت 20 دراسة.
خلص الباحثون إلى أنه خلال السنة الأولى بعد الولادة، تراوحت نسبة الإصابة بالاكتئاب الأبوي من 1.2٪ إلى 25.5٪، بينما زادت هذه النسبة لتتراوح ما بين 24٪ إلى 50٪ بين الرجال الذين عانت زوجاتهم من اكتئاب ما بعد الولادة. تم تحديد اكتئاب الأمهات باعتباره أقوى مؤشر على اكتئاب الأب خلال فترة ما بعد الولادة (8).
تغير الحياة المعتادة إلى الأبد!
إذا كنت أبا جديدا، من المؤكد أنك تذكر كيف كنت تقضي أيامك قبل مجيء طفلك بروتين معين وعادات ثابتة، وكيف انقلبت حياتك رأسا على عقب بمجرد قدوم الطفل: كثرة الرضعات الليلية، الضجة التي يبدو أنه لا يمكن تهدئتها، إعادة ترتيب أيامك لتلبية الاحتياجات المستمرة لمولود جديد؛ كل هذه الأمور يتعرض لها أي أب جديد.
هذا التغير الجذري هو ما مرّ به “مارك ويليامز” من مجموعة “Fathers Reaching”، وهي مجموعة دعم للآباء في المملكة المتحدة. عندما وُلد طفل ويليامز في عام 2004، كان ويليامز بلا عمل منتظم وتوقع أن يعود إلى العمل بعد أسبوعين، لكن لا شيء سار كما هو مخطط له. أولا، كانت ولادة زوجته متعسرة، ما جعله يعتقد أن زوجته وطفله سيموتان، وبعد تخطي حادث صعوبة الولادة، سقط ويليامز في تحديات الحياة مع طفل حديث الولادة، في الوقت الذي كان يشعر فيه بالضغط للعودة إلى عمله. وما زاد الطين بلة، أن زوجته كانت تعاني هي الأخرى من اكتئاب حاد بعد الولادة(2).
يقول عالم النفس “سكوت بيا” إن السبب وراء حدوث اكتئاب ما بعد الولادة لدى الرجال قد يكون بيولوجيا، جزئيا على الأقل، يعلم الجميع أن هرمونات الأمهات تتغير كثيرا أثناء الحمل وبعده، لكن ربما يكون الجديد هنا هو معرفة أن الآباء يعانون أيضا من تغيرات حقيقية في مستويات الهرمونات لديهم بعد ولادة الطفل.
تأكيدا لكلام بيا، وجدت دراسة أن الرجال المصابين باكتئاب ما بعد الولادة قد يعانون من بعض الفوضى الهرمونية. توصلت الدراسة التي نُشرت عام 2017 إلى وجود ارتباط بين انخفاض مستويات هرمون التستوستيرون واكتئاب ما بعد الولادة لدى الرجال. وفقا للدراسة، لوحظ بعد ولادة الرضيع انخفاض في مستويات هرمون التستوستيرون وزيادة في أعراض الاكتئاب لدى الآباء(10).
بالإضافة إلى هذه التغيرات الهرمونية، هناك الكثير من العوامل التي تلعب دورا أيضا في حدوث اكتئاب ما بعد الولادة لدى الرجال، ومنها أن الرجال اعتادوا قبل مجيء أطفالهم أن يكونوا محور اهتمام زوجاتهم، وهو ما يتغير عندما يدخل الطفل في المعادلة. تميل الأمهات إلى الارتباط بسرعة بالطفل، بينما يستغرق الأمر بعض الوقت لحدوث هذا الترابط بين الأب وطفله. هنا يُحرم الرجل من اهتمام زوجته لصالح طفله الذي لم يُكوِّن ارتباطا عاطفيا به بعد، فضلا عن أن غياب هذا الارتباط السريع قد يُشعر بعض الآباء بالذنب، ويجعلهم يتهمون أنفسهم بأنهم ليسوا آباء جيدين.
من ناحية أخرى، يمكن للأب الجديد أن يشعر بضغط شديد لتوفير الاحتياجات المتزايدة للأسرة، مع ما يصاحب ذلك من قلق حول الشؤون المالية والحياة المهنية، كذلك يحصل معظم الآباء الجدد على القليل من النوم، والقليل جدا من الجنس، وعدم وجود أي من هذين الأمرين يمكن أن يؤثر سلبا على الحالة المزاجية.
جدير بالذكر أن أعراض اكتئاب ما بعد الولادة تختلف بين الرجال والنساء، تشمل بعض العلامات الأكثر شيوعا لدى الرجال: الغضب أو الانفعال أو العدوانية، فقدان الاهتمام بالعمل أو الأنشطة المفضلة، الرغبة في العمل كل الوقت، الرغبة في الانعزال أو الانسحاب من العائلة والأصدقاء، الشعور بالإحباط أو الشعور بالحزن واليأس والارتباك، هذا بالإضافة إلى وجود أفكار ومشاعر سلبية متكررة باليأس أو الذنب أو انعدام القيمة، مع صعوبة التركيز واتخاذ القرارات، مشكلات في الذاكرة، النوم كثيرا أو قليلا جدا، فقدان الشهية أو الإفراط في الأكل، الأوجاع والآلام المستمرة، وقد يصل الأمر إلى وجود أفكار انتحارية (11).
وبينما تميل النساء إلى تحويل حزنهن وخوفهن إلى الداخل، فإن الرجال أكثر عرضة للتعبير عن الاكتئاب من خلال الغضب والعدوانية والتهيج والقلق، وذلك وفقا لما يقوله عالم النفس “ديفيد سينجي”، المقيم في سان دييغو، الذي عالج ما يقرب من 40 رجلا يعانون من اكتئاب ما بعد الولادة، وهو عضو مجلس إدارة المنظمة الدولية لدعم حالات اكتئاب ما بعد الولادة (Postpartum Support International)، وهي منظمة توفر الموارد والمعلومات حول اكتئاب ما بعد الولادة لدى الرجال.
يوضح الدكتور سينجي أن “الأبوة” هي حدث يختلف تماما عن أي حدث آخر في حياة أي رجل، قد تختلف حياتك كليا، وربما مشاعرك وأفكارك، بعد أن تُصبح أبا. تزيد المطالب المجتمعية الأمور سوءا، فالمجتمعات ترى أن الرجال يجب أن يكونوا فقط أقوياء ويتولون حماية الأسرة، قد يمنع هذا الأمر الرجال من طلب المساعدة. كان إحجام الدكتور ليفين عن التواصل مع أحد المحترفين مرتبطا بمشاعره حول الذكورة، يقول: “لم أكن أريد أن تراني زوجتي ضعيفا وعاجزا، كان من المفترض أن أكون قويا”(1).
باب الخروج
وهنا يأتي السؤال: هل هناك ما يمكن فعله لتجنب هذه المشكلة أو حلها؟ في هذا الصدد، يدّعي تحليل تلوي أُجري عام 2019 أن الفحص المنتظم، وتنفيذ تقنيات الوقاية، وتوفير العلاج المناسب؛ هي المفتاح لمكافحة اكتئاب ما بعد الولادة لدى الرجال (12). يمكن اعتبار أن هذه الأشياء هي “باب الخروج” من الاكتئاب ودائرة المشاعر السلبية التي يدور بها الآباء بعد ولادة أطفالهم.
هناك نوعان رئيسيان من العلاج لاكتئاب ما بعد الولادة: النوع الأول هو العلاج الدوائي، فقد يصف الأطباء مضادات الاكتئاب للشخص الذي يعاني من اكتئاب ما بعد الولادة، مضادات الاكتئاب هي منبهات، تُعيد التوازن للمواد الكيميائية في الدماغ. أما النوع الثاني فهو العلاج النفسي المعرفي السلوكي (CBT)، وهو يساعد الآباء على تحديد الأفكار السلبية التي تُسبب اكتئابهم ثم العمل على تغيير هذه الأفكار، بالإضافة إلى تعلم مهارات التأقلم للتعامل مع التوتر والعواطف السلبية الأخرى (10).
بالإضافة إلى ذلك، هناك بعض النصائح التي يُقدّمها موقع “تشوزينج ثيرابي” للتعامل مع اكتئاب ما بعد الولادة لدى الرجال مثل الحفاظ على التواصل مع نظام الدعم الخاص بك من العائلة والأصدقاء، وإيجاد منافذ للتعبير عن نفسك، وإعطاء الأولوية لصحتك الجسدية والعقلية. من الشائع أن تشعر بالإرهاق والتوتر والقلق في بعض الأحيان، يعتقد العديد من الآباء الجدد الذين يعانون من مشاعر سلبية أن هناك شيئا خاطئا في أنفسهم، يمكن أن يسبب هذا شعورا بالخجل وربما العار، ما قد يؤدي إلى زيادة الاكتئاب، ومعرفة أن هذه المشاعر طبيعية يمكن أن يطمئنهم (13).
عليك كذلك ألا تهمل ممارسة التمارين الرياضية، فمن المعروف على نطاق واسع أن التمرين يساعد على تحسين الحالة المزاجية، ويعمل أداةً للتعامل مع التوتر والاكتئاب والقلق. يمكن أن يساعدك إيجاد وقت لممارسة الرياضة بضعة أيام في الأسبوع لمدة ساعة تقريبا على الشعور بالتحسن، هنا يجب معرفة أن تحريك جسمك بأي شكل من الأشكال مفيد لصحتك الجسدية والعاطفية (14).
كذلك لا تتجنب التواصل مع زوجتك، نظرا لأن اكتئاب الآباء بعد الولادة يكون حدوثه أكثر احتمالا عندما تكون الأم مكتئبة، لذا، فإن الحفاظ على علاقة داعمة مع زوجتك هو أمر مهم لحالتكما العاطفية. إذا كان ذلك ممكنا، فحاول تحديد وقت كل أسبوع تقضيانه مع بعضكما بعضا. استغل هذا الوقت للتحقق مما يشعر به كل منكما، والتحدث عن الأبوة، والقيام بأشياء تستمتعان بها معا.
ومن المهم للغاية أيضا ابتكار خطة للحصول على قدر كاف من النوم، تتميز مرحلة حديثي الولادة بالحرمان من النوم، والذي يُعتقد أنه يؤدي دورا في اكتئاب ما بعد الولادة. للمساعدة على معالجة هذه المشكلة، فكّر في طرق يمكنك من خلالها جدولة وجبات الطعام لطفلك ليلا وتغيير الحفاظات لتحقيق أقصى قدر من النوم لك ولزوجتك، بحيث يمكن لكل شريك أن يحقق فترة نوم تمتد من 6 إلى 8 ساعات.
وأخيرا، يجب أن تحاول تذكير نفسك بالجوانب الإيجابية لكونك أصبحت أبا، على الرغم من أن الأبوة تمثل تحديا، فإن بها على الأرجح أشياء إيجابية قد تجدها ممتعة، قد يكون من الصعب تذكر هذه الأشياء عندما تكون متعبا أو مرهقا أو حزينا، لذا، اكتب قائمة تتضمن المشاعر والأشياء الإيجابية التي حدثت بعد أن أصبحت أبا، وانظر إلى هذه القائمة عندما تشعر بالتوتر، أضف المزيد من الأشياء لقائمتك مع نمو طفلك، وعِش تجارب مبهجة جديدة معه.
الصور