سيزيف والصخرة.. أو عن سؤال المعنى في الحياة
ثمة فارق ضخم بين أن يتمثل الإنسان أسطورة ما ويؤمن بها ويصدق مضامينها، وبين أن يبحث في دلالات هذه الأسطورة ويعي أبعادها الفلسفية، وإذ ينتقل الإنسان من التسليم بهذه الأساطير والإيمان بها إلى التناول التحليلي لمضامينها ودلالتها، فإنه يكتشف حينها أن هذه الأسطورة لم تكن شيئاً آخر سوى تأريخ للإنسان نفسه ولكينونته ووجوده في هذا العالم.
من هذا المنطلق جاء الاهتمام الفلسفي الحديث بالأساطير بوصفها تعبيراً صادقاً عن توق الإنسان وأشواقه وحيرته في هذا العالم، هذا التعبير الذي ابتدعه الإنسان قبل أن تصله أية أفكار أخرى بما في ذلك الأفكار الدينية وقبل أن يهتدي إلى طرح تساؤلاته هذه في صيغة إشكالات فلسفية.
السعي وراء الحق ليس السعي وراء ما هو مرغوب فيه.
في فلسفة كامو فإن العبث لا يأتي من كون العالم عبثي، بل في عدم خضوعه لمعايير العقل والعقلانية.
وإذا كانت الفلسفة الحديثة قد أولت اهتماما بالأسطورة بدءاً من شيلينغ وكتابه “فلسفة الأسطورة”، ومرورا بفرويد وتحليله للأبعاد النفسية اللاشعورية فيها وغيرهم، فإن السرد الأدبي لم يكن بعيداً كذلك عن هذا الاهتمام بالميثولوجيا، وهنا يبرز أمامنا نص ألبير كامو الذي كتبه عن أسطورة سيزيف ودلالتها الرمزية والفلسفية.
تحكي الأسطورة الإغريقية أن سيزيف كان رجلا ذكيا وماكرا جدا، استطاع أن يخدع إله الموت “ثانتوس” حين طلب منه أن يجرب الأصفاد والأقفال، وما إن جربها إله الموت حتى قام سيزيف بتكبيله، وحين كبل سيزيف إله الموت منع بذلك الناس أن تموت.
أغضب هذا الأمر الآلهة الأوليمبية فأصدروا عليه حكما بأن يعيش حياة أبدية على أن يقضي سيزيف هذه الأزلية في عمل غير مجدٍ، ألا وهو دحرجة صخرة صعودًا إلى جبل حتى تعود للتدحرج نزولا من جديد، مرارا وتكرارا، وبلا نهاية.
يتساءل كامو: هل يمكن أن تحل بالإنسان حياة عبثية أكثر، من حياة عبثية كهذه؟ أوليست حيواتنا التي نحياها في هذا العالم تشبه إلى حد كبير هذا الشقاء الذي حُكم على سيزيف به؟ ذلك الروتين اليومي الذي نعيشه وتلك الاعمال التي نكررها كل يوم دوم غاية تذكر أو هدف نصل إليه؟ ثم تطرح علينا هذه الأسطورة تساؤلاً آخر وهو ألا يمثل الموت في هذه الحالة خلاصاً للإنسان من هذا الضجر السرمدي؟
في الحقيقة أن هذه التساؤلات تقع في قلب فلسفة ألبير كامو الوجودية، وإن كان كامو قد تنكر لكونه فيلسوفاً وجودياً، إلا أن أعماله جميعها تدور حول قضية تقع في صلب الفلسفة الوجودية وهي قضية المعنى والإنسان في هذا العالم.
في فلسفة كامو فإن العبث لا يأتي من كون العالم عبثي، بل في عدم خضوعه لمعايير العقل والعقلانية، وبالتالي في الهوة بين وعي الإنسان وما عليه الوجود، ذلك أن العقل/ الوعي يتجسد بسؤال “لماذا؟”، وهو طلب، تفسير وتبرير، “إنها مساءلة تستلزم الفعل أو جعل مجريات ما، مفهومة.
بيد أن كل استفسار من هذا النوع يؤدي إلى استفسار آخر، ولن تنتهي الأسئلة في هذه الحالة. ومن حيث الفهم، وحتى الرضى بالحصول على الجواب، تظل الحياة سخيفة وعبثية حيث لا يمنحنا الفهم الرضى”. من هنا فإن العبث هو مواجهة بين كائنات عقلانية وعالم غير مبالٍ.
هدف الحياة الأسمى تجدها في ذاتها، لا يقع المعنى في مكان خارج هذا السعي والكفاح ومواجهة الإنسان لمصيره وقدره.
لكنّ أهداف كامو في تحليله لأسطورة سيزيف لم تكن لاستعراض عبثية وسخافة الوجود الإنساني كما يبدو للوهلة الأولى، بل تتجاوز ذلك ليقدم نقداً للإنسان الحديث المفتون بالعقلانية والموضوعية في التعاطي مع الحياة، ذلك أن السؤال الذي يشغل الإنسان المعاصر هو سؤال الجدوى والذي يحول الحياة إلى أرقام وحقائق، فعندما يطرح الإنسان تساؤلاً: لماذا يقوم سيزيف بهذا الفعل عديم الجدوى دون أن يضع حداً لهذه المأساة التي يعيشها؟، فإنه يستبطن هنا تصوراً عن الحياة وقيمتها على نحو عقلاني ومادي.
يرى كامو أن أسطورة سيزيف لا تعكس مأساة الإنسان في عبثية الحياة بقدر ما تصور تحديه وكفاحه المستمر. كان باستطاعة سيزيف أن يضع حدا لحياته وأن ينهي هذا العقاب الأبدي. لكنه اختار بشجاعة أن يتحدى قدره وأن يمضي قدماً في مواجهة مصيره هذا.
ماتخبرنا به أسطورة سيزيف أنه ليس بالضرورة أن يصل الإنسان إلى هدف في حياته وأن يحقق منجزات من نوع ما، ذلك أن هدف الحياة الأسمى تجدها في ذاتها، لا يقع المعنى في مكان خارج هذا السعي والكفاح ومواجهة الإنسان لمصيره وقدره، وهو إذ يكافح ويناضل ويتمرد يصنع نفسه ووعيه وقدره الخاص.
يتمثل المعنى إذاً في إعطاء القيمة لكل مانصنعنه بهذه الحياة من مواقف وأعمال مهما بدت صغيرة ومتواضعة، وفي شعورنا بأن مشوار حياتنا هو الهدف بعينه، ذاك هو الوقود الذي يزودنا بالقدرة على البقاء والاستمرار ودحرجة صرختنا اليومية دون كلل ولا ملل